يرقدُ هناك. يلتحفُ بطانيته الرمادية. فمُهُ يلتوي في ابتسامة مكشّرة، وأخاديدُ الوجع تصافحُ وجنتيه. يتقلّب يمنة ويسرة. ذراعهُ ترتفعُ لتسقط خاملة. ساقهُ تمتد، تعانق الفضاء، تبحثُ لوهلة عن مرفأ أكيد، تسبحُ على غير هدى في أثير الجاذبية، تتخبطُ وحيدة، ثم تؤوبُ إلى دفء السرير.
أضواءُ الفجر تتسللُ من النافذة، ترتسمُ على وجهه أضواء نيلية، تتجهمُ ملامحه في غضب عارم، تتلوى في قسوة مفرطة، ثم ترفلُ بين علامات السكينة.
بعوضةٌ عابثة تبغي معانقة دمه، تحوم جذلةً حول أذنه، وهي تطلقُ أناشيد الحرب، عقلُهُ يترجمها معزوفة فرح، فتعودُ يده الممتدة سلاحا إلى غِمدها مسالمة.
أواه! هل هو ذاك الفتى الذي أعرِفُ منذ دهور!
عرباتُ الباعة المتجولين تنزعُ عنها رداء الوسن، تنتفضُ في صرير، منتشية بيومٍ جديد، أُغلقُ النافذةَ ببطء السعادة، لعلّهُ يحظى بدقائق إضافية من الكرى.
أراهُ يتقلبُ، يغادرُ جسدَهُ سلامُ تلك السويعاتِ القلائل. أشفقُ عليه، فلليقظةِ ضريبة المرارة، وطعمُ المسئولية.
طائرُ النورس الضائع يشدو بأغنيةٍ جنائزية.. أُحسُ بقشعريرة باردة تستعمرُ أطرافي.. فأنظرُ حولي.. أين أشعة الشمس؟!
هاهي بدأت تنبلج كسلانة، عجوزا تتوكأ على حافةِ الزمن التليد، تتمطّى في خمولٍ حالم، تعقصُ ضفائرها الذهبية أعوادَ قمحٍ ممتلئة.
النورسُ الضائع يستقوي بحباله الصوتية في جذلٍ مجنون، تنمو عضلاتُهُ بوتيرة خرافية، ينظرُ إليّ في تحدٍ شامت.. أين المفر؟!
يدعوني للمبارزة.. يناديني للقتال!
هيّا أيتها الشمس الكسولة! أسرعي.. أرجوك
أمُ الذهب تمشطُ شعرها بروية .. النورس يقتربُ لا يلوي على شئ.
تفزعُ الشمس لرؤيتنا.. تلقي بمشطها السحري خلف المحيط.. تجري مسرعةً فوق رؤوس الغمام..
تبرقُ عينا النورس بشهوةِ الدماء.. ينقضُّ من علٍ شاهق.
أغلقُ النافذة.. وأختبأ خلف الستور أراقب..
تقبضُ الشمس بتلابيب النورس.. فيصفعها بمخلبه الآثم..
الريحُ تعصفُ.. أيها الشمس.. انتبهي قبل فوات الأوان
الأرضُ تُناجي مبتهلة.. يا رفيقةَ الدرب.. تماسكي لدقائق
يغرسُ مخلبه المتنامي.. في قلب الشمس.. فتسقط صرعى
ينتزعُ مفتاح النافذة من حناياها.. ثم يُطالعُني بشماتة..
أغمضُ عيني جزعا.. ثم أهوي على الجسد الملقى أمامي..